وما ان اكملت ياسمين كلامها حتى بدأ يسمع صوت امرأة يقشعر له الابدان ويصدر من كل الانحاء ... امرأة تصرخ وتستغيث وصراخها يعلو اكثر واكثر وبكاؤها يقطع القلوب من الحزن ...
تصرخ : من شأن الله ارحموني ... من شأن الله اتركوني ... انا ما عملت شيء ... انا مظلومة ... انا مظلومة لا تقتلوني ... من شان الله يا بابا ... من شان الله يا بابا لا تموتوني ... لا تموتوني ...
وصرخة آلم عالية تلتها صرخة اخرى واخرى حتى توقف الصراخ وكان المرأة التي كانت تصرخ ما عادت قادرة على الصراخ ...
واخذ يسمع صوت حفر في الارض ولهث مجموعة من الرجال ومن ثم صوت خطوات تتلاشى وكانها تغادر المكان ...
في هذه الاثناء كان فارس قد امسك بيد ياسمين بقوة وكأنه يحتمي بها ...
وتلفت في جميع الاتجاهات باحثا عن مصدر الصوت وياسمين ما زالت واقفة حتى حل السكون والهدوء على الجبل والتفتت ياسمين الى فارس وقالت له وهو ما زال مستمرا مجمدا يرتجف من الخوف
- قالت : فارس لماذا انت خائف ؟...
ومما انت خائف ... من الوحوش والضباع ام من عائلتك ...
في مثل هذه الساعة وهذا اليوم قبل سنين طويلة قتلت عمتك ، والذي قتلها هو ابوك وجدك واعمامك ...
حتى الوحوش والضباع هربت من الجبل حينما قدموا واحضروها معهم ... حتى الوحوش والضباع كانت سترحمها ...
اما لماذا قتلت ...؟ فان اردت ان تعرف عليك ان تفتح قبرها..!
واصل فارس الاستماع الى ياسمين بدون ان يتكلم وما زال يرتجف من الخوف ...
وياسمين تقول له : لا تخف يا فارس ... لا تخف ... لا يوجد شيء في هذا الجبل يؤذيك ... لا تخف انها مجرد اصوات الموتى لا تخيف ولا تؤذي ... انها اصوات ستبقى ساكنة لهذا الجبل لتشهد على جريمة لم يكشف عنها احد وسيسمع هذه الاصوات ... كل من يقترب من هذا الجبل ... في مثل هذه الساعة وهذا اليوم ... هذا جبل ربيحة الملعون.
- ونطق فارس وقال : ارجوك يا ياسمين ... دعينا نذهب من هنا ... ارجوك اخرجيني من هذا المكان لا اريد ان اعرف شيئا ... ارجوك ...
- فقالت ياسمين : لماذا انت خائف ...؟ لا تكن جبانا ... أي رجل انت ...؟ هذه فرصتك لتعرف الحقيقة ...حقيقة عائلتك ... ان ذهبت من هنا وان اشرقت الشمس ستضطر ان تنتظر عاما كاملا لتستطيع معرفة الحقيقة ...
هيا كن شجاعا ولا تضيع الفرصة بخوفك ...
هيا اطرد الخوف من قلبك ...
لا داعي لان يقتلك الفضول وانت تنتظر عاما كاملا لتعرف عن عائلتك ...
- فقال فارس : ياسمين انا بعرف عائلتي جيدا ...
ارجوك انا لست من عائلة الدهري ولا اريد ان اعرف عنهم شيئا ولا دخل لي بهم ...
صدقيني لا اريد ان اعرف عنهم شيئا ...
انا اعرف من هو والدي ومن هو جدي ومن هم اعمامي ولا احد منهم يحمل اسم الدهري ... فكفاك عبثا بي ...
لا اريد ان اصاب بالجنون بقصة مجنونة لا دخل لي بها .
- فاقتربت ياسمين من فارس وامسكت بيدها يده ووضعت اليد الاخرى على خده
وقالت: فارس حبيبي انا لازم اتجوزك ...
ولا انت نسيت انو احنا لازم نتجوز ...
مش انا اخترتك زوجا لي وانت وافقت يا حبيبي ؟؟...
فارس مش انت بتحبني وبدك تتجوزني ، علشان هيك يا حبيبي لازم تعرف القصة وتعرف حقيقتك وحقيقة عيلتك الوسخة يا حبيبي ...
ما تخاف انا جنبك ...
انا صحيح وعدتك انو رايح افتحلك قبر ... بس انا يا حبيبي ما بدي أأذيك ولا تنسى انو انت راح تكون جوزي وابو بناتي ...
اسمع كلامي علشان اقدر احميك من لعنة ابوك واجدادك ...
هاي انا بنت ومش خايفة ... وانت زلمة ومش لازم تخاف ...
- فقال فارس : ياسمين انا مش مقتنع انك انسانة ومش ممكن تكوني انسانة ... انت سر غامض .. انت مش من البشر ... انت ام الجماجم ... جنية ... شيطانة ... ساحرة ... روح ميت من الفضاء ما بعرف ... بس انتي مش من البشر ... من يوم ما عرفتك وانا ما بعرف الا الجماجم والاموات والقبور وطول وقتك لابسة اسود باسود ... ما بدك حد يشوف حتى اصبعك ... صحيح انا خايف وكل انسان لازم يخاف ... بس انت ما بتخافي لانك مش من الانس .
- فقالت ياسمين : حبيبي فارس بس هبل ...
انا قبل هالمرة حكيتلك اني انسانة ومن البشر واكثر من هيك ، انا بحمل دمك واصلي من اصلك ... وانت قبل هالمرة شفتني ولأّ نسيت يا روحي ؟
- فقال فارس : صحيح انا شفتك بس هذا ما بعني انك مثل كل البنات ...
- فقاطعته ياسمين وقالت : مزبوط كلامك ...انا مش مثل كل البنات ... انا احلى منهم كلهم ... انا قلت لك قبل هالمرة انو اذا الله خلق وحدة حلوة فهي انا يا حبيبي ، وعلى فكرة ممكن هلق تشوفني للمرة الثانية يا فارس.
وبرغم من اشتياق فارس لرؤية ياسمين ذات الخمار مرة اخرى ، الا ان خوفه من الجبل واصوات الموتى كان اقوى من اشتياقه ...
- فقال لها : ما بدي اشوفك ... انا بدي اخلص من لعبة الاموات والقبور هاي .
- فابتسمت ياسمين وبكلمات هادئة وواثقة وقالت له : لا يا حبيبي انت حاب تشوفني وحابب تلمس ايدي .
فصمت فارس ولم يتكلم وكأنه بصمته يؤكد على ما قالته ... بل ان بريق عينيه يؤكد كل كلمة قالتها ويدعوها ان تفعل ذلك ...
وبدأت ياسمين بنزع الخمار وكأنها تلبي طلب عيون فارس ...
وبان وجه ياسمين وكانه البدر ...
وحركت راسها بدلال يمينا وشمالا ليتناثر شعرها الاسود الطويل الممزوج بظلام الجبل ...
ورفعت يدها اليمنى وباسنانها امسكت طرف القفاز وسحبته من يدها بدلال لتخرج اصابعها من القفاز ...
لتظهر كفة يدها الناعمة الملساء .. وفعلت كذلك بيدها اليسرى ..
والقت بالقفازين في الهواء ليهبطا على الارض على بعد عدة امتار الى جانبها وعيون فارس تراقبها ..
ثم أخذت ترفع العباءة التي سقطت عن كتفيها ،
وترمق فارس نظرة خبيثة ...
- وقالت بنبرة صوتها دافئه واثقة مجنونة : فارس ... فارس ... فارس ... اتحبني يا فارس ؟ انا ايضا اريدك ...؟
ولكن اريدك ان تعرف الحقيقة اكثر ...
هنا حيث تستلقي دفنت عمتك ...
احفر التراب وازحه لتعرف الحقيقة ان كنت تريدني ...
اعرف الحقيقة
لم يخف فارس حينما علم انه يستلقي فوق قبر المرأه التي كانت تصرخ والتي تقول له ياسمين انها عمته ...
فقد كانت نار الاشتياق لياسمين اقوى من خوفه ومن رهبة الموت والقبر ...
وبدأ بحفر التراب بكلتا يديه ..
بجنون وعيونه متسمرة نحو ياسمين ...
حفر اكثر واكثر وبقوة وعلى ضوء القمر .. التفت باتجاه يديه التي حملت شيئا ، ما ان راه حتى توقف مذعورا خائفا ...
كان فارس قد راى بين يديه رأس امراة مقطوعا ..
وقد تاكل من العفن الا الشعر الحريري الاسود الذي ما زال كما هو يغطي الراس المتعفن ودون ان يصاب بأي تلف وكأنه لفتاة مدللة تعتني به كل لحظة ...
اصفر فارس وارتعش ولم يحتمل بشاعة ما راى ، وبدأ يتقيأ بشدة ودون توقف وسقط على الارض مغشيا عليه من هول الصدمة ومن هول ما راى ... وما ان فتح فارس عينيه حتى كانت الشمس قد اشرقت ... وجد نفسه في سيارته مستلقيا وبجانبه ياسمين تداعب شعره وجبينه برقة وحنان وفارس ينظر اليها ولا ينبس بحرف واحد .. وقد بدا الارهاق والتعب والقلق على وجهه واضحا جليا وعيونه تائهة حائرة مما يحدث معه ..
وقال فارس وقد اغرورقت عيناه بالدموع : ياسمين ارحميني لم اعد احتمل .. ارجوك ... ارجوك ... واغلق عينيه مستسلما .
وبدا على ياسمين التاثر لحال فارس المنهار وادركت ان فارس لم يعد يقوى ويحتمل اكثر من ذلك ..
فقالت بنبرة حزينة : فارس هيا لاعيدك الى البيت لتنام قليلا وترتاح .
- فقال فارس : وهل ساعرف طعما للنوم او الراحة وانا غارق في بحر من الالغاز لا اول ولا اخر له ... ماذا حدث معي يا ياسمين وكيف وصلت الى هنا ... الم نكن في الجبل ؟؟
- فقالت ياسمين : نعم يا حبيبي كنا في الجبل ولكن اغمي عليك فجاة وبدون سبب ، وبعد ذلك ايقظتك وعدنا الى السيارة وكنت متعبا فتركتك لتنام قليلا .
ارتسمت على شفاه فارس ابتسامة ساخرة حزينة ومهمومة وقال : اغمي علي دون سبب ؟ ... اتقولين دون سبب ، وهل وجودنا في هذا المكان الرهيب في منتصف الليل ... نسمع صراخ وبكاء الاموات واحفر قبرا لاخرج راسا مقطوعا ... هل كل هذا لا يكفي ليكون سببا ؟؟؟
- قالت : فارس حبيبي ، لا ادري ما الذي تخيلته انت ... ولكن كل ما في الامر انك حفرت القبر واخرجت هذا ( الصندوق الصغير ) ولم يكن هناك راس ولا عظام ولكن ان تخيلت رأسا فذلك مجرد اوهام ... انظر الى الصندوق الذي اخرجته لعلك تجد بداخله شيئا يساعدك على معرفة حقيقتك وحقيقة عائلتك القذرة ...
وانت بمحض ارادتك حفرت لتخرج الحقيقة المدفونة ولم يجبرك احد على ذلك ... حركت ياسمين السيارة واخذت تقودها بسرعة جنونية وهي تقول لفارس : الان ساوصلك الى البيت لتذهب وتنام قليلا وبعد ذلك ، افتح الصندوق وسترى ما يساعدك على معرفة جزء اخر من الحقيقة الملعونة .
انهت ياسمين كلماتها وقادت السيارة بسرعة جنونية وكانها تسابق الريح ... طريقة قيادتها الجنونية للسيارة اربكت فارس واستفزته ليصرخ فيها : اوقفي السيارة ايتها المجنونة !!!
وتبتسم ياسمين ولا تبالي وينفجر فارس غاضبا ويصرخ بها: اوقفي السيارة ... لكنها لم تبال بل زادت من السرعة اكثر واكثر .
مد فارس يده الى مقود السيارة وهو يصرخ بها وكادت ياسمين تفقد السيطرة على السيارة التي اخذت تتمايل في وسط الشارع ولكنها ببراعة سيطرت على السيارة واوقفتها ... فارس قد اصفر لونه من الخوف وخاصة في اللحظات الاخيرة التي كادت السيارة تهوي بهما نحو واد سحيق .
اوقفت ياسمين السيارة وقالت لفارس : مالك يا حبيبي ...في اشي ازعلك ؟
ومد فارس يده الى مفاتيح السيارة وسحبها ووضعها في جيبه خوفا من ان تعيد ياسمين الكرة مرة اخرى وخرج من السيارة وقال لها : انت مجنونة والله العظيم انك مجنونة ..
وانا مجنون اللي ماشي ورا وحدة مجنونة ... ملعون ابو الحب وابو الفضول اللي معلقني فيك واللي مخليني امشي وراك مثل الكلب من مقبرة لمقبرة ومن جنون لجنون ... بفكر انو وصلنا لاخر محطة في هالقصة وبفكر انو اللعبة انتهت ولازم تنتهي هلأ.
- فقالت ياسمين ساخرة : مش حتقدر تنهي شيء ... كل شيء بينتهي في وقته يا حبيبي.
- فرد فارس : لا يا ام الجماجم ... انا اللي بقرر ان انهيه او ما انهيه .
- قالت : قدر ومكتوب يا حبيب قلبي ومثل ما بحكو " المكتوب ما منو هروب "
- قال : قدر ومكتوب الك مش الي ...
- قالت : طيب قل لي كيف حتنهيه يا شاطر ؟
- قال : بسيطة كثير ..ما بدي اشوف وجهك مرة ثانية لامن بعيد ولا من قريب وهيك كل شيء انتهى .
- قالت : تقدر ما تشتاق لي وما تفكر فيّ ؟
- قال : بقدر والايام حتثبت لك يا سيدة القبور .
- قالت : بس انت بتحبني ومش حتقدر تعيش من دوني ولأ أنسيت اني قدرك يا فارس ؟
- قال : بس يا ياسمين كلامك الغامض ما عاد يؤثر في ... والحقيقة انني احببت اسلوبك الغامض واحببت طريقة كلامك وعلشان ما كنت بقدر اشوفك وانت متخفية ورا الخمار ... دفعني الفضول اطارد وراك ، مثلك مثل لغز صعب بحب الواحد يفكر فيه حتى يحله ... ولو كنت مش لابسة هالخمار ومتخفية كنت مثل أي وحدة ثانية .. والغمامة السوداء اللي انت لابستيها .. واللي كانت مسكرة على عقلي انزاحت .
- قالت : يا فارس بلاش كذب ... انت عمرك شفت وحدة مثلي ...؟
- قال : بصراحة مجنونة مثلك ما شفت .
- قالت : وحلوة مثلي شفت ؟ ولا باحلامك حتشوف ...
- قال : الجمال مش كل شيء في الحياة !!
- قالت ساخرة : يعني انت بطلت تحبني وزعلان مني يا حبيبي ؟؟؟
- قال : بدون مسخرة اللعبة انتهت ودوري على اسلوب ثاني ...
- قالت : طيب ... بس بفكر انه بهمك تعرف حقيقتك وحقيقة عيلتك وقصة عمتك ربيحة وليش ابوك واعمامك قتلوها ..!
- فضحك فارس من اعماق قلبه بصوت عال ...وقال : ياسمين يا مجنونة .. انت فكرك انا مصدق الهبل اللي انت بتحكيلي اياه ... صحيح انا كنت ماشي وراك خطوة بخطوة ... صحيح انو عندك قدرات غريبة جدا ومش طبيعية ومع اني ما كنت اؤمن بالسحر بس بشهدلك انك ساحرة وعلى مستوى كمان وانا ما كنت ماشي وراك علشان الكلام الفاضي اللي بتحكيه عن عيلة الدهري وعن عيلة الشامي وعن شو اسمها ربيحة ... انا كنت ماشي وراك انت وعلشانك انت ... وما كان مهم القصة اللي انت بتحكيها ، المهم اني اقدر اشوفك و ...و.... افهمت يا ياسمين ؟
- قالت ياسمين : شاطر يا فارس ... شاطر بس لا تنسى اني لعنة ابوك وابو ابوك واجدادك ... ومش حتقدر تهرب من اللعنة .
- فضحك فارس وقال : طيب اسحريني قرد وتجوزيني ... واخذ يضحك ...!!
- استفزت ياسمين وقالت : قلتلك انا مش ساحرة يا فارس ... انا انسانة مثلك ...
- ابتسم فارس وازدادت ثقته بنفسه للنصر الذي حققه على ياسمين وقال : طيب بما انك انسانة مثلي شو رايك تخلعي هالعباية والخمار ونطلع انا وانت نسهر سهرة حلوة وننسى هالكلام الفاضي ، انا بعرف محل حلو ...
- قاطعته ياسمين وقالت : انا مش رخيصة مثل الناس اللي بتعرفها ...
- قال : بس امبارح في الجبل ما كنت ممانعة ... او انت بتحبي هيك سهرات بين القبور ...
- قالت وقد استشاطت غضبا : صدقت امي وستي ...دم " الدهري " وسخ وكلكم واحد وشو بدو يخلف ابن الدهري الا كلب جديد يحمل اسمه .
وفرح فارس وهو يرى ياسمين ام الجماجم مرتبكة مستفزة .. وشعر بنصر اخر على هذه المخلوقة الجبارة العجيبة .. ازداد غروره بنفسه واراد ان يراها ضعيفة اكثر واكثر ...
اقترب منها مبتسما وبثقة عالية ومد يده الى الخمار الذي يغطي وجهها وسحبه من فوق راسها والقاه على الارض ليظهر وجه ياسمين وشعرها الذي تعجز الكلمات والاوصاف عن وصف ذلك الابداع الالهي المتناسق الجمال الذي يفوق كل جمال او صورة او خيال .....
ونكمل غدا ان شاء الله
مدام بالعمر باقيه